الأروقة التي احتضنت العلماء والفقهاء القصر العباسي.. بغداد تبوح بأسرار التاريخ في صمت الطين والطوب

رحلة بين جدران تحفظ عبق الماضي
حين تطأ قدماك أزقة بغداد القديمة، وتقترب من منطقة الميدان على ضفاف دجلة، يطل عليك شامخاً القصر العباسي، كأنما يريد أن يذكّرك بأن الحضارة لا تموت مهما عصفت بها الحروب والسنين.
توقفتُ أمام بوابته العريقة، أحمل دفتري وكاميرتي، لكنني شعرت أن ما سألتقطه ليس صوراً، بل أنفاس قرون طويلة مرّت من هنا.
أول الانبهار.. حين يتحول الطين إلى فن خالد
القصر، الذي يعود إلى أواخر القرن الثاني عشر الميلادي في عهد الخليفة الناصر لدين الله، بُني من الطابوق المزجج والطين المخلوط بالجص. للوهلة الأولى قد يبدو البناء بسيطاً، لكنه حين ترفع رأسك نحو الأقواس المقرنصة والزخارف الجصية، تدرك أن البساطة لم تكن يوماً نقيض الجمال.
كل قوس يحكي قصة، وكل زخرفة تبدو كأنها آية مرسومة بحروف معمارية، حتى أنني شعرت أن الجدران نفسها تحفظ آيات القرآن التي كان يتدارسها العلماء والفقهاء في هذا المكان.
أروقة تحمل صدى الدروس والمناظرات
دخلتُ الباحة الداخلية، حيث كانت تُقام حلقات الدرس لطلاب العلم الوافدين من كل أنحاء الدولة العباسية. جلستُ على مقعد حجري، وتخيلت كيف كان المكان يعج بأصوات العلماء والفقهاء، وكيف كان الخليفة نفسه يحرص على أن يكون القصر منارة للعلم والفكر لا مجرد دار حكم.
رائحة التاريخ تملأ المكان، كأن عبق الكتب القديمة ما زال عالقاً في الجدران، وكأن أصوات الطلاب لم تغادر بعد.
بين الحاضر والماضي.. بغداد تحرس ذاكرتها
القصر اليوم بات موقعاً سياحياً وثقافياً مفتوحاً للزوار والباحثين. ورغم آثار الإهمال التي لحقت به عبر العقود، إلا أن الجهود قائمة لصيانته وترميمه، ليبقى شاهداً على عظمة بغداد العباسية.
وأنت تسير بين أروقته، يتملّكك إحساس غريب: أنت هنا في بغداد الحديثة، لكنك في الوقت نفسه عالق في بغداد الذهبية التي كانت عاصمة الدنيا.
صوت بغداد من قلب القصر
أثناء زيارتي، التقيتُ مرشداً سياحياً حدثني بعاطفة بالغة قائلاً:” حين يدخل السائح إلى هذا المكان، لا يخرج كما دخل، فالجدران تغيّر قلبه وتترك فيه أثراً عميقاً.”
كلماته لم تكن مجرد وصف، بل حقيقة شعرت بها حين غادرت القصر وأنا أحمل في داخلي شيئاً من بغداد العباسية.
أنشطة سياحية وثقافية حول القصر
الزائر للقصر العباسي لا يعيش فقط تجربة مشاهدة أثر معماري، بل يستطيع أن يستكمل رحلته بالسير على ضفاف دجلة القريبة، أو زيارة المدرسة المستنصرية التي لا تبعد كثيراً، وكذلك سوق السراي حيث تباع الكتب والمخطوطات، ليكتمل المشهد الثقافي.
أما في الأمسيات، فتحتضن بعض الفعاليات الفنية والأمسيات الشعرية في محيط القصر، ليظل نابضاً بالحياة لا مجرد أطلال صامتة.
بغداد تفتح قلبها من جديد
زيارة القصر العباسي ليست مجرد رحلة إلى موقع أثري، إنها لقاء مع روح بغداد؛ بغداد التي قاومت الغزاة، ونهضت من الرماد، وما زالت تحتفظ بجواهرها المكنونة.
خرجتُ من بوابة القصر وقد شعرت أنني أودع صديقاً قديماً، وعدته أن أعود، لأروي للعالم أن بغداد لم تفقد سحرها، وأن القصر العباسي ما زال يقول لكل من يزوره:” أنا ذاكرة حضارة، ومن يزورني يزور قلب التاريخ.”